رواية بيت في الدنيا وبيت في الحنين – إبراهيم الكوني

2022-12-30

كان يروض بناي القصب لحناً عصياً من لحون الحنين في خلوة العشية حالَما باغته حكيم الجن. لوعته الوحشة في عزلة المراعي، فخاض في أوحال المستنقع المتخلف عن غدران الأمطار الجارفة ليستقطع من عيدان القصب ساقاً دبر منه ناياً لئيماً نعته حكماء الدعاة فقالوا أنه الماكينة الوحيدة في الصحراء التي تمَكّنت أن تحتال على الخفاء، وتستجدي من أركانه معشوقاً اسمه الحنين. قبل أن يعارك ساق القصب لاستدراج الحنين، احتال على المجهول، ونشد طويلا أن يستجلب الحنين بالصوت، بالأغاني، غير أنه أخفق باستمرارً، فلم يجد مفراً، للتنفيس عن كربته، غير الدموع.

استلقى على قفاه مراراً، في أعقاب كل إخفاق، وتطلع إلى السماء اللامبالية بعينين مغمورتين بالدموع، فلا يكتشف أنه لم يحضر في الرحاب أكثر الأمر الذي يقتضي سوى حالَما تلسعه شمس الغداة بسياطها النارية، فيجد أن غيبته لم تستغرق الليل كله وبحسب، إلا أنها استقطعت نصيباً من نهار الأمس كذلكً. وقد كان غالباً يتساءل عن سر الإغفاءة، لأن أحداً لم يعلِمه يوماً أن الهم إذا ارتفع عن الحد يمكن أن يشكل سبباً لذا الجنس من فقدان الوعي. مثلما لم تستثر الدموع في مقلتيه تعجُّبه ايضاً، لأنه.

لم يذكر ذاته سوى باكياً: إذا استصغره الأغيار إنتحب، وإذا استكبروه ايضاً إنتحب، وإذا أبصر الفراخ الجرداء في أعشاش الطير زعزعه الشوق وبكى. غير أن لا يبكيه شيء مثلما تبكيه اللامبالاة القاسية في معشوقتيه الخالدتين: السماء وقرنيتها السفلى الصحراء.

عاهد ذاته أن يحتمل جميع الأشياء، إلا أنه أخفق باستمرارً في الصدد في مواجهة مشهد الصحراء ومرأى السماء، فكان يغسل مقلتيه بأنبل وأحر أنماط الدمع مع بداية كل شمس، لأن سليل الصحراء، ومعشوقته الأخرى السماء.