رواية جهات الجنوب – ممدوح عزام

2022-12-30

“سريعاً عرف يونس, أنه بات وحيداً, فالساحة خلت من الناس عقب بضع دقائق, وانصرف أحدث العتالين متعباً, يجرجر قدميه الخاسرتين, ثم أقلع الباص نافخاً دخانه الرديء مساءا الطائش, تاركاً في أعماقه شعوراً بالوجع والأذى. وأكملت الريح السمراء انصرام يومه, حين هبت زوبعة راقصة متعجلة من الشارع المفتوح, حاملة بصحبتها أوراقاً ممزقة, وخرقاً, وأتربة, وغيمة مستسلمة من نفايات الشجر. كان يكره الصيف, ولم يعلم كيف اختار أن يرجع في ذلك الفصل التافه الذي يترك القلب عارياً, فارغاً, ومشوشاً كالخرائب.
ران الهدوء بعد ذاك. ولم يحتسب يشاهد أي مخلوق: لابشراً, ولا كلاباً, ولا قططاً. وبدا له كأن البلدة ضريح. وقد همدت, وتعلقت على حافة العشية. شعر أنه خسر حس الاتجاهات, فلم يعلم الشرق التابع للغرب, ولا الشمال من ناحية الجنوب, وقد هبط في موضع غريب لم يره من قبل. ثم تذكر أنه, قبل ست وعشرين سنة, كان قد تبليط هنا, بشخصه, مئات الحجارة, يوم اعتقلوه في زنازين الفحم. كان هذا الوقت جزءاً من ماضٍ أحمق كالغبار, كل ما يرغبه هو أن ينساه, إلا أن كيف؟ هل يقطع حبل سرته؟ أم يخفيه ضِمن علبة من موزاييك الخشب؟ غير ممكن! هذا أنه اكتشف حالا أن ما من شيء حقيقي إلا المنصرم وحده. فها هو يقف هنا غريباً لا يصاحبه واحد من سوى الذكريات. فكل ما يتفرج عليه كان جديداً, إذ توضح البلدة مجهولة كلياً, وكل تلك المنازل والعمارات صرت متاهة من الشراك والكمائن”.